سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى: أنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا تقضى، وقرأ الستة من القراء وللدار بلامين و{الآخرة} نعت للدار، وقرأ ابن عامر وحده {ولدار} بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وهذا نحو مسجد الجامع أي مسجد اليوم الجامع، فكذلك هذا ولدار الحياة الآخرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {يعقلون} على إرادة الغائب، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {تعقلون} على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف فأما {أفلا يعقلون} في {يس} [الآية: 68] فقرأه نافع وابن ذكوان: بتاء والباقون بياء، وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} [الأنعام: 29] وهو المقصود بها، ويصح أن يكون قوله: {أفلا تعقلون} على معنى فقل لهم يا محمد إذ الحال على هذه الصفة {أفلا يعقلون}.
وقوله تعالى:
{قد نعلم} الآية، {قد} الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدراً عنده فإذا كان الفعل خالصاً للاستقبال كان التوقع من المتكلم، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا إذا كان الفعل ماضياً أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين، و{نعلم} تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه، فهي تعم المضي والحال والاستقبال، ودخلت إن للمبالغة في التأكيد، وقرأ نافع وحده {ليُحزنك} من أحزن، وقرأ الباقون {ليَحزنك} من حزن الرجل، وقرأ أبو رجاء {لِيحزِنْك} بكسر اللام والزاي وجزم النون، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة {يحزنك} بغير لام، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزناً وحزناً وحزنته أنا، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزناً كما تقول كحلته ودهنته، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب خباة العرب أحزنت الرجل، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالاً عندهم من أحزنته، فمن قرأ {ليُحزنك} بضم الياء فهو على القياس في التغيير، ومن قرأ {ليَحزنُك} بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال، و{الذي يقولون} لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في رئيَ من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وعاصم وحمزة {لا يكذبونك} بتشديد الدال وفتح الكاف، وقرأها ابن عباس وردها على قارئ عليه {يُكذبونك} بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، اختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة: هما بمعنى واحد كما تقول:
سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت، حكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، وتقول العرب ايضاً أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول أحمدية إذا وجدته محموداً، فالمعنى على قراءة من قرأ {يكذّبونك} بتشديد الذال أي لا تحزن {فإنهم لا يكذبونك} تكذيباً على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عناداً منهم وظلماً، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمداً صادقاً ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبداً، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس والمعنى على قراءة من قرأ {يكذبونك} بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولاً في {يكذبونك} أي لا يجدونك كاذباً في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في {يكذّبونك} بشد الذال، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، و{يجحدون} حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها ويقربها.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وجميع ما في هذه التأويلات من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم، وأما أقوال جميعهم فمكذبة، إما له وإما للذي جاء به.
قال القاضي أبو محمد: وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه، كقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14] وغيرها، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه، وذهبوا إلى أن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، ولا سبيل إلى اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى:
{وجحدوا بها} [النمل: 14] إنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم وغيرها.
قال القاضي أبو محمد: ودفع ما يتصور العقل ويعقل من جواز كفر العناد على هذه الطريقة صعب أما أن كفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ومن عرف الله والنبوة وأن محمداً يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء الحسد مع ذلك، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فحلاً عظيماً من الإبل قد همَّ بأبي جهل ولكنه كفر مع ذلك، وأسند الطبري أن جبريل عليه السلام وجد النبي عليه السلام حزيناً فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقال: {إنهم لا يكذبونك} بل يعلمون أنك صادق {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفونها أو أكثرها ثم يرون من آياته زائداً على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة هو ذلك ومرة عساه ليسه، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة التامة.


هذه الآية تضمنت عرض الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيته أن يأتيه مثل ما أتاهم من النصر إذا امتثل ما امتثلوه من الصبر، قال الضحاك وابن جريج:
عزى الله بهذه الآية نبيه، وروي عن ابن عامر أنه قرأ {وأذوا} بغير واو بعد الهمزة، ثم قوى ذلك الرجاء بقوله: {ولا مبدل لكلمات الله} أي لا راد لأمره وكلماته السابقات بما يكون ولا مكذب لما أخبر به، فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما يأتي وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له، فالقصد هنا هذا الخبر وجاء اللفظ عاماً جميع كلمات الله السابقات، وأما كلام الله عز وجل في التوراة والإنجيل فمذهب ابن عباس أنه لا مبدل لها وإنما حرفها اليهود بالتأويل لا ببدل حروف وألفاظ، وجوز كثير من العلماء أن يكونوا بدلوا الألفاظ لأنهم استحفظوها وهو الأظهر، وأما القرآن فإن الله تعالى تضمن حفظه فلا يجوز فيه التبديل، قال الله تعالى: {وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وقال في أولئك {بما استحفظوا من كتاب الله} [المائدة: 44] وقوله تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} أي فيما أنزلناه وقصصناه عليك ما يقضي هذا الذي أخبرناك به، وفاعل {جاءك} مضمر على ما ذهب إليه الطبري والرماني، تقديره ولقد جاءك نبأ أو أنباء.
قال القاضي أبو محمد: والثواب عندي في المعنى أن يقدر جلاء أو بيان، وقال أبو علي الفارسي: قوله {من نبأ المرسلين}، في موضع رفع ب جاء، ودخل حرف الجر على الفاعل، وهذا على مذهب الأخفش في تجويزه دخول من في الواجب، ووجه قول الرماني أن من لا تزاد في الواجب، وقوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم} الآية، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه، وله ذلك كله بحق ملكه {فلا تكونن من الجاهلين} في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أسلوب معنى الآية، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن و{كبر إعراضهم} خبرها، ويصح أن يكون {إعراضهم} هو اسم كان ويقدر في {كبر} ضمير وتكون {كبر} في موضع الخبر، والأول من الوجهين أقيس، والنفق السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع، والسلم الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل]: [البسيط]
لا يَحْزُنُ المَرْء أحْجاء البلادِ ولا *** تُبْنَى له في السماواتِ السَّلاليمُ
و {تأتيهم بآية} أي بعلامة، ويريد إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء، وإما أن {تأتيهم بالآية} من أحدى الجهتين، وحذف جواب الشرط قبل في قوله {إن استطعت} إيجاز لفهم السامع به، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم، و{لجمعهم} يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم، والهدى الإرشاد، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه تعالى عن قولهم، و{من الجاهلين} يحتمل في أن لا يعلم أن الله {لو شاء لجمعهم} ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده، وتذهب به لنفسك إلى مالم يقدر الله به، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {فلا تكونن من الجاهلين} وبين قوله لنوح عليه السلام {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] وقد تقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، قال مكي والمهدي: والخطاب بقوله {فلا تكونن من الجاهلين} للنبي عليه السلام والمراد به أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: وقر نوح لسنه وشيبته، وقال قوم: جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل العاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب.
قال القاضي أبو محمد: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجيء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدراً وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم.


هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول، فعبر عن ذلك كله ب {يسمعون} إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا سمع، ثم قال تعالى: {والموتى} يريد الكفار، فعبر، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن وعي كلماته، قاله مجاهد وقتادة والحسن، و{يبعثهم الله} يحتمل معنيين قال الحسن معناه {يبعثهم الله} بأن يؤمنوا حين يوقفهم.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء الاستعارة في هذا التأويل، في الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثاً، والواو على هذا مشركة في العامل عطفت {الموتى} على {الذين}، و{يبعثهم الله} في موضع الحال، وكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم الله بمشيئته، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر، وقرأ الحسن {ثم إليه يرجعون} فتناسبت الآية، وقال مجاهد وقتادة: {والموتى} يريد الكفار، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى ولا يسمعون فيعون، و{يبعثهم الله} أي: يحشرهم يوم القيامة {ثم إليه} أي إلى سطوته وعقابه {يرجعون} وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء والواو على هذا عاطفة جملة كلام على جملة، {الموتى} مبتدأ و{يبعثهم الله} خبره، فكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون والكفار سيبعثهم الله ويردهم إلى عقابه، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار، والعائد على {الذين} هو الضمير في {يسمعون}، والضمير في {قالوا} عائد على الكفار، و{لولا} تحضيض بمعنى هلا، قال الشاعر [جرير]: [الطويل]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النّيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ *** بَنِي ضَوْطرى لولا الكميّ المقنَّعا
ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا، فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلك الآية، {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل {ولكن أكثرهم لا يعلمون} إن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون، وقوله تعالى: {وما من دابة} الآية، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجوة في أنواع مخلوقاته، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمماً لا غير كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً، قال الطبري وغيره: والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا: قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما، وقد قال مكي في المماثلة في أنها تعرف الله تعلى وتعبده، وهذا قول خلف و{دابة} وزنها فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم كما قالوا الأعرج والأبرق، وأزيل منه معنى الصفة وليست بالصفة الغالبة في قولنا العباس والحارث لأن معنى الصفة باق في الصفة الغالبة، وقرأت طائفة {ولا طائرِ} عطفاً على اللفظ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة {ولا طائرٌ} بالرفع عطفاً على المعنى، وقرأت فرقة {ولا طير} وهو جمع {طائر} وقوله: {بجناحيه} تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال {طائر} السعد والنحس.
وقوله تعالى:
{ألزمناه طائره في عنقه} أي عمله، ويقال: طار لفلان طائر كذا أي سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى {بجناحيه} إخراج للطائر عن هذا كله، وقرأ علقمة وابن هرمز {فرَطنا في الكتاب} بتخفيف الراء والمعنى واحد، وقال النقاش معنى {فرطنا} مخففة أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي أزاله، والأول أصوب، والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير والكتاب القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات، وقيل اللوح المحفوظ، ومن شيء على هذا القول عام في جميع الأشياء، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم، و{يحشرون} قالت فرقة حشر البهائم موتها، وقالت فرقة حشرها بعثها، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء، إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9